فصل: تفسير الآيات (6- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (6- 13):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}.
التفسير:
فى هذه الآية استكمال للأدب الذي تحكم به الروابط التي ينبغى أن تقوم بين أفراد المجتمع الإسلامى، بعد أن بيّنت الآيات السابقة الأدب الذي ينبغى أن يتأدب به المسلمون في حضرة النبي الكريم.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ}.
النبأ: الخبر ذو الشأن، وأصله من النبوّ وهو الظهور، والخروج عن المألوف.
قيل إن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة، وقد بعثه النبيّ إلى بنى المصطلق، ليجمع مال الصدقة منهم.. فلما أشرف عليهم.. وكانوا قد علموا بمقدم مبعوث رسول اللّه إليهم خرجوا للقائه، ظنّ أنّهم إنما يريدون به شرّا، فقفل راجعا، وأخبر النبيّ والمسلمين أن القوم قد منعوا الزكاة، وأنهم همّوا بقتله، فأعدّ النبيّ العدة لقتالهم، وقبل أن يسير النبيّ بالمسلمين إليهم جاءه وفدهم يكذّب ما كان من مقولة الوليد بن عقبة فيهم، وأنهم على الإسلام، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. فنزلت هذه الآية مصدقة لهم.
وأيّا كان سبب النزول، فإن الآية عامة مطلقة، تحذّر المسلمين من الأنباء الكاذبة التي يرجف بها المرجفون، ليشيعوا في المسلمين قالة السوء، وليوغروا بها صدورهم على أهل الإيمان والسلامة فيهم، وأن هذا من شأنه لو وقع موقع القبول والتسليم من المؤمنين، من غير تبصر أو تمحيص، لأفسد عليهم أمرهم، ولنزع الثقة والطمأنينة من بينهم.
فما أكثر ما كان يلقى به المنافقون، واليهود، في محيط المسلمين من أكاذيب وأراجيف وشائعات، الأمر الذي يقضى على المسلمين بأن يمحصوا هذه الأخبار، وألّا يأخذوها مأخذ القبول والتسليم دون نظر فاخص لها.
وفى قوله تعالى: {فاسِقٌ}.
إشارة إلى أن المقولة إنما ينظر فيها إلى صاحبها الذي وردت منه، فإن كان من أهل الإيمان والثقة استمع لقوله، وأخذ به، وإن كان ممن يتهّم، استمع إليه ووضع قوله موضع التمحيص، فلا يحكم على قوله بالردّ ابتداء، فقد يكون في قوله صدق، أو شيء من الصدق ينتفع به المسلمون.
وقوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ} هو بيان.. للعلة التي من أجلها كان الأمر بالتبين والتثبت لما يجيء للمسلمين من أنباء يحملها قوم لم يعرفوا في المسلمين بالصدق، ووثاقة الإيمان.
وقوله تعالى: {بِجَهالَةٍ} إلفات للمسلمين إلى ألّا يقيموا أمرا من أمورهم على جهل، وعلى عدم رؤية واضحة لهذا الأمر، فذلك من شأنه إن أصاب مرة أن يخطئ مرات كثيرة.
وقوله تعالى: {فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} أي أن الأخذ بالنبإ الوارد من فاسق قبل التثبت منه، يعود على المسلمين بالحسرة والندم، لأنهم وضعوا الأمر في غير موضعه، ورتّبوا على هذا القول الكاذب أمورا لا يمكن إصلاحها بعد أن وقع عليها ما وقع.
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
هو إلفات إلى المؤمنين بأنهم مع الرسول، في حراسة من السماء، وأنه قائم فيهم، يكشف ما يقع على طريقهم من خيانات الخائنين، وأراجيف المرجفين.
ولكن الأمر سيختلف بعد وفاة النبيّ، ويكون عليهم حينئذ أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم، وأن يتثبتوا من الأخبار التي تحمل إليهم.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} توجيه للمسلمين ألّا يقدّموا بين يدى اللّه ورسوله، وأن ينتظروا بالأمر غير الجلّى الذي بين أيديهم، حتى يبينه الرسول لهم، فإن من الغبن والضلال معا، أن يتخبط المرء في الظلام وهناك مصباح سماوىّ مضيء، يكشف له كل خافية، ويجلى له كل خفىّ.
وقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}.
بيان لما بين النبيّ وبين المسلمين من فرق بعيد، في حكمه على الأمور، وحكمهم عليها.
فالنبى، يرى بنور اللّه، ويهتدى بهدى اللّه، فإذا قضى في الأمر كان قضاؤه الحق، وحكمه العدل والخير والإحسان.. أما ما يقضى به المسلمون في أمورهم، فهو قضاء قائم على مستوى الفهم البشرى، الذي قد يصيب وقد يخطئ.
ومن هنا كان على المؤمنين- ما دام الرسول فيهم- ألا يقطعوا أمرا ذا بال دونه، وألا يخرجوا عن أمر يدعوهم إليه، فإنهم إن فعلوا، وأكرهوا الرسول على أمر لم يكن موضع رضا منه- لم يجئهم من هذا الأمر إلا ما فيه إعنات لهم، وإلّا أصابهم منه ما لا يحبون.
والمثل لهذا ما يذكره المسلمون من يوم أحد، وقد أكرهوا النبيّ على الخروج من المدينة، للقاء المشركين، وكان من رأيه- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتحصّن بها، فإن دخلها عليه المشركون قاتلهم المسلمون، وقاتل معهم الصبيان والنساء، وكانت الدور حصونا لهم.. وقد خرج النبيّ بالمسلمين إلى أحد، على غير رضا، وكان الذي حدث! ومثل آخر، يذكره المسلمون من يوم الحديبية، فلو أن الرسول استجاب لما كان يراه المسلمون يومئذ من قتال المشركين، حتى يتمكنوا من دخول مكة، والطواف بالمسجد الحرام- لو أن الرسول فعل هذا وكان قتال بينهم وبين المشركين، لسالت دماء غزيرة، ولذهبت نفوس كريمة من المؤمنين وربما كانت الدائرة عليهم.. وهاهم أولاء يرون أن الطريق إلى البيت الحرام قد صار مفتوحا لهم من غير قتال، وأنهم قد غنموا خيبر أيضا، إلى جانب هذا الفتح الذي لم ترق فيه دماء، ولم تذهب فيه أرواح! قوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
أي ولكنكم أيها المسلمون لم تخالفوا رسول اللّه، ولم تخرجوا عن أمره، إذ قد حبّب اللّه سبحانه وتعالى إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، وبهذا الحبّ للإيمان، والولاء لجماله وجلاله في نفوسكم، كنتم على طاعة وولاء لرسول اللّه، لأن ذلك من ثمرات الإيمان الوثيق، الذي تعلقت به القلوب، وانتعشت به النفوس، وذلك الإيمان الذي غرسه اللّه في قلوبكم، وحببه إليكم، وزينه لكم- قد كرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان.. إذ لا يجتمع إيمان وكفر، ولا يلتقى إيمان وفسوق عن أمر اللّه ورسوله، وعصيان للّه ورسوله.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين حبب اللّه إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. فهؤلاء المؤمنون هم الراشدون، الذين قام أمرهم على الرشد والخير والفلاح.
وفى العدول عن الخطاب إلى ضمير الغيبة عند الإشارة إلى هؤلاء المؤمنين- في هذا إلفات إليهم، وإلى علوّ مقامهم، وأنهم بحيث ترنو الأبصار إليهم، وتمتد مطارح النظر نحوهم.. حتى لكأنهم- وهم في مقام الحضور أجسادا- هم بعيدون منزلة ومقاما.
قوله تعالى: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي أن هذا الذي سكبه اللّه سبحانه وتعالى في قلوب المؤمنين من حب الإيمان، وتزيينه في قلوبهم، ومن كراهية الكفر، وما يجر وراءه من فسوق وعصيان- هو فضل من اللّه ونعمة أنعم بها على عباده المؤمنين.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ينزل فضله، ويوفد روافد نعمه حيث قضت حكمته المؤاخية لعلمه، الذي لا تخفى عليه خافية.
قوله تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
كانت الآيات السابقة دستورا في الأدب للمسلمين مع النبي، ثم دستورا بين المسلمين وبين أعدائهم الذين يدسّون عليهم الأخبار الكاذبة.
وفى هذه الآية وما بعدها دستور من الأخلاق، والأدب والسياسة، فيما بين المسلمين أنفسهم.
فالمسلمون، وقد فرغوا أو كادوا يفرغون من مواجهة العدو الذي كان يحيط بهم من المشركين، واليهود، والمنافقين- فإن ذلك من شأنه أن يتيح فرصة لطبيعة العدوان في النفس البشرية، فإذا لم يجد المسلمون من يقاتلون من أعدائهم، لم يسلم الأمر من أن يقع الشر بينهم هم أنفسهم، ويقاتل بعضهم بعضا.. فتلك هي الطبيعة الإنسانية، والتي يمثلها قول الشاعر الجاهلى، وهو يتحدث عن الخيل التي أعدّها قومه للغارات:
وكنّ إذا أغرن على جناب ** وأعوزهنّ نهب حيث كانا

نزلن من الرّباب على حلول ** وضبّة إنه من حان حانا

وأحيانا على بكر أخينا ** إذا ما لم نجد إلا أخانا!!

ومن هنا نبه القرآن الكريم إلى حماية المسلمين من هذا الشر الذي قد يرد عليهم من ذات أنفسهم، ولم ينبه إلى عدم وقوع الشر والقتال أصلا، لأن ذلك مما لا تحتمله النفوس احتمالا لازما مطلقا.
فالقرآن يسلّم- وإن كان ذلك على غير ما لا يرضاه للمؤمنين- يسلّم بالأمر الواقع في الحياة، ويفترض وقوع القتال بين المؤمنين، ولكنه يدعو إلى إطفاء وقدة هذا الشر، ويدعو المسلمين جميعا إلى المشاركة في إخماده، قبل أن يتسع، ويستغلظ.
فيقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما}.
فهاتان طائفتان من المؤمنين، قد وقع بينهما قتال، وهم مع هذا القتال مؤمنون، لم يخرجهم القتال عن الإيمان.
إنهم مؤمنون، وإن كانوا على هذا المكروه.. وواجب المؤمنين حينئذ، هو أن يعملوا على إصلاح ذات البين بين الطائفتين، وأن ينزلوهما على ما يقضى به كتاب اللّه وسنة رسوله.
وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ}.
يشير إلى الخطوة الثانية بعد دعوة الطائفتين إلى الصلح، وإلى النزول على حكم اللّه ورسوله الذي يقضى به المسلمون بينهما- والخطوة الثانية هي أنه إذا لم تقبل إحدى الطائفتين النزول على حكم اللّه ورسوله، كانت باغية معتدية، وكان على المؤمنين أن ينصروا الطائفة الأخرى، المبغىّ عليها.
وقوله تعالى: {فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
هو بيان للخطوة الثالثة، بعد أن ينتصر المؤمنون للطائفة المبغىّ عليها، وبعد أن تنزل الطائفة المعتدية على حكم اللّه ورسوله.. عندئذ لا يترك الأمر هكذا، باستسلام الفئة الباغية تحت حكم السيف.. فإن ذلك من شأنه أن يترك آثارا من الضغينة والبغضاء، لا ينحسم معها شر أبدا، وإن خمد إلى حين.
ومن هنا كانت الدعوة إلى المصالحة بين الفريقين، وجمعهما على الإخاء والمودة، ونزع ما في النفوس من سخائم، وغسل ما نجم عن هذا القتال من آثار، ومداواة ما كان منها من جراح.
وفى قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
إشارة إلى ما يكون قد وقع في نفوس المسلمين الذين قاتلوا الفئة الباغية، من بغضة لها، وكراهية لموقفها المتعنت.. الأمر الذي قد يحمل المسلمين على أن يجوروا عليها، وينزلوها منزلة العقاب والانتقام.. إن ذلك من شأنه- وهو في ذاته خارج على سنن الحق والعدل- أن يؤجج نار الحقد، والعداوة ولا يطفئ نار الفتنة التي قام المسلمون لإطفائها.. فوجب على المسلمين أن يأخذوا الفئة الباغية بالعدل، وأن يقسطوا أي يعدلوا في حكمهم عليها {إن اللّه يحب المقسطين} في كل حال، مع الأولياء والأعداء على السواء.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} [8: المائدة] قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
هو تعقيب على الآية السابقة، وعلى ما دعت إليه المؤمنين من حسم الخلاف الذي يقع بين جماعاتهم، ثم هو إلفات إلى أن الأخوّة القائمة بين المؤمنين لا تتغير صفتها، ولا تنقطع آثارها بتلك العوارض التي تعرض لهم في حياتهم، فإنما هي موجات من ريح عابرة، لا تلبث أن تفتر، ثم يعود إلى البحر سكونه، وصفاؤه، وجلاله.
ومن جهة أخرى، فإن الفئة الباغية، لا يزال لها مكانها في المؤمنين، ولا تزال لها أخوّتها فيهم، وإذن فلا يجار عليهم لأنهم جاروا، ولا يعتدى عليهم، لأنهم اعتدوا، وإنما يقبل منهم قبولهم لما قضى به المؤمنون عليهم، ثم إن لهم بعد هذا حقهم كاملا لا ينقص منه شيء.. فالمعتدون والمعتدى عليهم إخوان للمؤمنين جميعا.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
إن من أفتك الآفات التي تغتال مشاعر الإخاء والمودة بين المجتمعات، استخفاف جماعة بجماعة، والنظر إليها نظرا ساخرا، فإن ذلك من شأنه أن يغرى هؤلاء المستخفّين المستهزئين بمن استخفوا بهم، ونظروا إليهم باستصغار واستهزاء، ثم هو من جهة أخرى يحمل الجماعة المستخفّ بها، المستصغر لشأنها- على أن تدافع عن نفسها، وأن تردّ هذه السخرية، وهذا الاستهزاء بالسخرية والاستهزاء، ممن سخروا منهم، وهزءوا بهم.. وهذا أول قدح لشرارة الحرب.. فإن الحرب أولها الكلام، كما يقولون.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المستهزئين الساخرين قد يكونون أقل عند اللّه شأنا، من هؤلاء الذين اتخذوهم غرضا للهزء والسخرية.
فلا ينبغى الانخداع بالظاهر، ووزن الأمور عليها.. فكيف يكون الحال لو أن هؤلاء المستهزأ بهم كانوا عند اللّه أفضل وأكرم من هؤلاء المستهزئين؟
ألا يخافون أن ينتقم منهم اللّه لأوليائه؟ ألا يستحون أن يستخفّوا بمن هم أثقل منهم ميزانا، وأكرم منهم معدنا؟ إن هذا أمر لو لم يؤثمه الدين، لأنكره العقل، ورفضته المروءة، وجفاه المنطق، ولفظه العدل والإنصاف.
وفى جمع الرجال والنساء، إشارة إلى أن هذه السخرية إنما تكون على غايتها من الشناعة والسوء، حين تكون في صورة جماعية، إذ أنها تشد أعدادا كثيرة من الناس إلى هذا الشر، وتوقعهم في هذا البلاء.
وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
اللّمز هو الغمز بالمعايب، والتلويح بها.
والتنابز بالألقاب: الترامي بها.
ومن الآفات التي تهدد كيان المجتمع، وتقوض بنيانه، شيوع الاستخفاف بأنفسهم، وعدم التحرج من ذكر بعضهم بعضا بالمقابح والمساويء، فهذا إنما يكون من إفرازات الجماعات المتحلّلة من القيم الخلقية، التي تتبادل المنكرات كما تتبادل السلع الرخيصة في البيع والشراء.
ذلك أن الذي يعيب الناس، ويرميهم بما يسوء من الألقاب، لا يسوؤه كثيرا أن يعيبه الناس، وأن يرجموه بكل سوء.. وهذا- واللّه أعلم- هو ما قصد إليه قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} بأيقاع الفعل عليهم، فكأنهم إذ يلمزون غيرهم يلمزون أنفسهم ضمنا.
وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ} أي بئس الاسم الذي يطلق عليكم بعد أن ينزع عنكم الإيمان الذي خرجتم منه بما كان منكم من لمز لأنفسكم وتنابز بالألقاب بينكم.. فقد كنتم مؤمنين، ثم ها أنتم أولاء أصبحتم فاسقين، أي خارجين عن الإيمان، بهذا اللغو الساقط من الكلام.
فبئس هذا الاسم الذي سمّيتم به فاسقين، بعد أن كنتم مؤمنين.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
أي ومن لم يرجع عن هذا الترامي بكلمات السوء، ويستقيم على ما يدعوه إليه دينه ومروءته، من القول المعروف، وتجنب اللغو والسّقط من الكلام- ومن لم يرجع عن هذا، ثم يرضى لنفسه أن يقيم على الفسق ويهجر الإيمان، فهو من الظالمين وللظالمين عذاب أليم، كما يقول سبحانه: {يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [31: الإنسان].
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
الظنّ: ما يقع في نفس الإنسان من تصورات للأمر، من واردات خيالاته، وأوهامه، دون أن يكون بين يديه دليل ظاهر، أو حجة قاطعة.
والظنون التي ترد على الناس كثيرة لا تحصى، إنها خواطر تتردد في صدور الناس، ويكون لها دور كبير في تصرفاتهم.
ولهذا جاء النهى باجتناب كثير من الظن، لا كلّ الظن، وهذا يعنى ألا يأخذ الإنسان بكل ما يقع له من ظنون، بل يجب أن يكون حذرا في مواجهة كل ظن، وعليه أن يمحصه كما يمحص النبأ الذي يرد عليه من فاسق.. فإن مورد الظنون متّهم، لأنه مورد يقوم عليه هوى النفس، ووساوس الشيطان.
وفى الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا..» وفى المأثور: «الظنّ أكذب الحديث»: أي أن الأحاديث الواردة من موارد الظنون، هي أحاديث يغلب عليها الكذب أكثر من أي أحاديث أخرى.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} إشارة إلى أن بعض الظن، هو الذي يقع تحت حكم المنهي عنه، لأنه إثم، إذ كان قائما على باطل، وفى الحديث: «إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فأمض».
وقوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا تتبعوا مساوئ بعضكم، ولا تكشفوا عما ستره اللّه من عيوبكم.
وقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي ولا يتحدث بعضكم عن بعض بمكروه في غيبته.
وقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}.
هو تشنيع على الغيبة، وازدراء وتنديد بأهلها، إنهم أسوأ من أخس الحيوانات موقفا، وأنزلهم منزلة.. إنهم يأكلون لحم إخوانهم، والحيوانات تعاف أن يأكل الجنس لحم جنسه.. وليس هذا وحسب، بل إنهم ليأكلون هذا اللحم ميتا، متعفنا، وكثير من الحيوانات- كالأسود مثلا- تعاف أكل الميتة، ولو ماتت جوعا..!!
فهذا مثل ضربه اللّه سبحانه وتعالى للمغتاب.. فإنه إذ يغتاب شخصا ما، فإنما ينهش عرضه، وهو غائب دون أن يملك صاحبه أن يدفع هذه السهام التي تفرى جلده، وتنفذ إلى عظمه.. تماما كشأنه لو كان ميتا، ثم جاء هذا المغتاب إلى جسده، وأعمل فيه أسنانه، وأكله كما تأكل الذئاب جريحها.. إنه لا يملك من أمره شيئا.
وقوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ}.
هو تعقيب على هذا الجواب المحذوف الذي تنطق به الحال من قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}؟ والجواب على هذا، جواب واحد، لا خلاف عليه، وهو: {لا}.
فكان التعقيب على هذا الجواب: أما هذا {فَكَرِهْتُمُوهُ}.
وأما شبيهه ومثيله فما زال طعمه حلوا في أفواهكم، فاكرهوه كما كرهتم مثيله طبيعة {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} يقبل توبتكم إن أنتم نزعتم عن هذه المنكرات واستقمتم على طريق الإيمان.
وفى الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه.. لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته ومن يتبع اللّه عورته يفضحه في بيته..».
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} هو تعقيب عام على هذه الأحكام وتلك الآداب، التي كانت خطابا للذين آمنوا، ليرتلوها، ويأخذوا أنفسهم بها.. وليس هذا فحسب، بل إن عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع غير المؤمنين.. مع الناس جميعا، من كل أمة، ومن كل دين.. إنها أخلاق إنسانية، يجب أن تكون طبعا وجبلّة في المؤمن، يعيش بها في الحياة كلها، ومع الناس جميعا، فلا تكون ثوابا بلبسه مع المؤمنين، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه.. فإنه بهذا إنما ينزع كمالا خلعه اللّه عليه، ويتعرّى من جلال كساه اللّه إياه.
ولهذا جاء الخطاب هنا للناس جميعا: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} والمستمع لهذا الخطاب، والعامل به، هم المؤمنون.
ثم أعقب هذا الخطاب، تقرير هذه الحقيقة التي ينبغى أن يعيها المؤمنون:
{إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى}.
فأنتم أيها الناس- مؤمنين وغير مؤمنين- إخوة في الإنسانية، إذ كنتم من طينة واحدة، ومن جرثومة واحدة:
{كلكم لآدم وآدم من تراب} وأنه إذا كان للمؤمنين منزلة عند اللّه، وفضل على غير المؤمنين، فذلك رزق من رزق اللّه، وإن من الخير للمؤمنين أن ينفقوا من هذا الخير على الإنسانية كلها، وأن يكونوا الوجه الكريم الطيب، الرحيم، فيها.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا}.
الجعل، كما قلنا في أكثر من موضع، هو إضافة جديدة تدخل على أصل الشيء، فهو من متعلقات الموجودات، وليس له هو وجود ذاتى.
فتوزّع الناس إلى شعوب وقبائل، ليس أمرا ذاتيا، تتغير به حقيقة الإنسانية في الناس.. إنهم مهما اختلفوا شعوبا وأوطانا، فإنهم إخوة قرابة ونسبا، وقوله تعالى: {لِتَعارَفُوا} تعليل لهذا التقسيم الذي وقع في محيط الناس، فكانوا شعوبا وقبائل، وذلك ليتعارفوا، وليكون لهم في مجتمع الشعب أو القبيلة، تماسك وترابط، لأنهم في هذا المحيط الضيق- نسبيّا- أقدر على أن يتعارفوا، ويتآخوا، الأمر الذي لا يقع- إن وقع- إلا باهتا، لا يكاد يحسّ، لو أن الإنسان كان فردا في الإنسانية كلها.
فلما جعل اللّه سبحانه وتعالى لنا من أنفسنا أزواجا نسكن إليها، وأولادا تقرّ بهم أعيننا، وتصبّ فيهم روافد عواطفنا- جعل اللّه لنا المجتمعات التي ننتمى إليها، والأمم التي نرتبط بالحياة معها.
وكما أن الأسرة لا تعزلنا عن أمتنا، ولا تقطعنا عن مجتمعنا، كذلك ينبغى ألا تعزلنا أمتنا عن الأمم، ولا يقطعنا مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى.
فالاختلاف الواقع بين الناس، وتمايزهم شعوبا وأمما، هو في الواقع سبب تعارفهم، وداعية إلى قيام هذه الوحدات الحية في كيان المجتمع الإنسانى، الممثلة في الشعوب والأمم.. فهذه الوحدات هي التي غذّت مشاعر العصبية للقومية، ووثقت من روابط الجماعة التي تضمها وحدة، من وطن، أو لغة، أو دين، فتعاونت، وترابطت، وصارت أشبه بالكيان الواحد.
وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} هو استكمال لوجه القضية التي عرضها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا} فقد كان من داعية هذا الانقسام بين الجماعات الإنسانية، وانحياز كل جماعة منها إلى موطن خاص بها، ولسان تتخاطب به، ودين تدين به، وحياة اجتماعية وسياسية تعيش فيها- كان من داعية هذا أن تمايزت الجماعات، وتفاوتت حظوظها في الحياة. وكان من هذا تعالى بعض الشعوب على بعض، وتفاخرها بما جمعت بين يديها من أسباب القوة والسلطان- ولقد جاء قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة، التي دخلت على الناس من مظاهر التفاوت المادي والعقلي بين جماعاتهم، وليقيم المفهوم الصحيح الذي هو ميزان التفاضل بين الناس، إن كان ثمّة تفاضل، وهو التقوى، فمن كان للّه أتقى، كان عند اللّه- وينبغى أن يكون كذلك عند الناس- أفضل وأكرم، ففى مجال التقوى ينبغى أن يتنافس المنافسون، وعلى ميزان التقوى يجب أن تقوم منازلهم، وتتحدد مراتبهم.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} إشارة إلى أن التقوى- ومحلها القلوب- أمر قد يخفى على الناس، فلا يعرفون من التقىّ، ولا مقداره من التقوى.. وإذ كان ذلك شأن الناس، فإن اللّه سبحانه وتعالى: {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يعلم ما تخفى الضمائر، وما تسرّ الصدور.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن السخرية بالناس ولمزهم وعيبهم، وسوء الظن بهم- قد يكون عن تقدير خاطئ وحساب مغلوط، قائم على حكم الظاهر، على حين تكون القلوب عامرة بالتقوى، مزهرة بالخير.. ولو اطلع هؤلاء اللامزون المتنابزون بالألقاب، على قلوب الناس، لتغيّر رأيهم فيهم.. وإذن فيجب ألا يأخذ الناس بحكم الظاهر، وألا يحكموا على الإنسان من ظاهره وحسب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [11: الحجرات].